في الطريق إلى " حاج عمران

محمد عفيف الحسيني      
(كاتب كردي، مقيم في السويد)     

ماذا تبقى ؟"  
       ربما في " حاج عمران" سألنا بعضنا عن كأسنا، هذي التي نحن إنتقيناها، وهيأنا موائدنا الصبيغة بالدم الوطني كم كان اليساريون مبتدئينّ كم كان المغني خافتاً

سعدي يوسف


تبعد "حاج عمران" عن الحدود الإيرانية مسافة خمسة كيلومترات، وهناك
يحتشد عبق الجنرال ملا مصطفى البارزاني، عبق قديم مغمور بالعذاب والأمل والصلابة والقليل من اليأس، عبق الجبل الإسطوري، والحكايات الإسطورية من أين سيبدأ المسافر (أهو حقاً المسافر، أم العائد إلى بلده؟), لايعرف المسافر المسافة بالتحديد الجغرافي ما بين المدينتين الجبليتين لكن السائق يكون في إنتظاره الثامنة صباحاً، لقد إنتهى للتو من قهوته، معه نصف دزينة من الأقلام، ودفتر بغلاف أسود سيظل يرافقه مثل ظله طيلة وجوده في الجبال حريصاً عليه مثلما يحرص على سماع صياح ديكه المتباهي بصوته الحاد، في ذلك اليوم

يستيقظ المسافر أبكر مما إعتاده ديك الفندق ـ هل سيصيح هو هذه المرة ليستيقظ صديقه الديك ـ إنها الساعة الخامسة في كوردستان، السادسة في عامودا، السابعة في السويد. إلى أيها سينتمي؟ تقلّب في سريره.. تأمل عريشة العنب المتبخترة على نافذته العريضة. تأمل السنونوات الثلاث النائمات على سلك الكهرباء المقطوع: وديعة، هادئةً، ناعمة.. (الياً سيكتشف المسافر وجود عشها المعلّق في سقف الفندق، على جهته الداخلية.. حيث بهو صغير.. تأتي بعده غرفة العمال الرقيقين كسنونوات الأسلاك) يستيقظ المسافر: هاهو أخيراً يقترب من جنراله الذي طالما أحبّه، وكان في وجدانه أن يلتقي به شخصياً. لقد إلتقى برفاقه الأكثر قدماً: رفاق مسيرته التاريخية من "مهاباد الدامية.. إلى ضفاف آراس" والتي جاء المسافر خصيصاً من أجل لقاء هؤلاء الذين أصبحوا أصدقاءه الحميمين، بأعمارهم الطاعنة في الذكريات والرحيل "فليترك المسافر شغفه بهم في كتاب خاص" أولئك الكبار سناً وحياةً وتضحية، فقط ليتذكر الآن مولاه "محمد عيسى" الثمانيني بذاكرته

البارقة مثل شلال " كَلِي علي بك" الوقفة الأولى في الطريق المثير والشهير إلى "حاج عمران"/ طريق "هاملتون"

ولد هاملتون، عام 1889 في نيوزيلندا من أبوين إسكتلنديين، ولكونه مهندساً متخصصاً بالطرق والإنشاءات، فقد دعته حكومة الإنتداب عام إلى العراق، ليشرفَ على بناء طريق في منطقة كانت البغال والدواب تشكّل وسيلة النقل الوحيدة الممكنة فيها. وقد تمكن هاملتون من بناء الطريق بالإستعانة بالأيدي العاملة المحلية فقط، واضطر إلى تفجير كتل صخرية هائلة وبناء شرفات على سفوح جبلية شديدة الإنحدار، كما قام خلال عمله في كوردستان بتطوير إسلوب ونظام متكامل لبناء الجسور الحديدية، أدى إستخدام هذا النظام في الحرب العالمية الثانية والسنوات اللاحقة، إلى إكتسابه شهرة وسمعة عالميتين. وكان المبدأ الذي جاء به هاملتون يعتمد على الإنتهاء من بناء قطع صغيرة خفيفة، يتم نقلها في ظل أجواء وظروف شاقة جداً إلى المكان الذي كان مخططاً أن يُقام الجسر فيه، ويتم هناك تجميع هذه القطع وتركيبها، وتم بهذه الوسيلة بناء أكثر من ألف جسر من جسور هاملتون في مختلف أرجاء الإمبراطورية البريطانية، وقام هاملتون ببناء كل هذه الجسور بعد أن قام بتجربتها وتطويرها على الوديان وفوق الهاوية التي يمر في قعرها نهر راوندوز عام 1930 ، لقد تحول هاملتون من خلال بناء هذا الطريق إلى أكثر أصدقاء الكورد تحمساً لقضيتهم
(د. كونتر دشنر)

ـ هو ليس قوياً كما كان، هو كذلك منذ عامين، فالأمطار كانت قليلة. يقول الأخ إبراهيم الأنيق.. إبن هذه الجهات الجبلية الوعرة إلى درجة الخطورة. ولكن الشلال يبدو للمسافر متدفقاً.. أبيضَ.. يرتطم ماؤه بصخور إخضرتْ في الرطوبة وانزلقت قليلاً إلى الحوض المائي، الذي يتطاير فوقه طيور بكثرة،. هل كانت السنونوات الثلاث هنا؟ إنها تلعب، تُسقط نفسها في الحوض، أو تظل ترفرف بأجنحتها وعظامها الرقيقة أمام رذاذ الشلال، وتعود إلى الأعلى حيث أوكارها، أو أعشاشها محفورة في صخور "كَلي علي بك".. يهدأ ماء الشلال قليلاً في الحوض، هدوءاً أزرقَ غامضاً، ليتابع طريقه من جديد حافراً في جبال إسطورية قاسية طريقه الهادىء الذي سيرافق المسافر إلى أبعد من جهته. أين يصب هذا النهر.. وهو يرتوي بأسطورة الجبال. والتاريخ الدموي المرشوش على ذاكرة الكورد في جهات كوردستان أجمعين؟ في الطريق الممتع رأى المسافر فيما يرى النائم اأخواله الجبليين المنحدرين من جبل عبد العزيز"الكوجر" وهم يقودون قطعان مواشيهم الى حيث العشب الازرق في جهات الجبل العتيد، رآهم بكثرة.. رأى بيوتهم الرومانسية وهي مهجورة تماماً، فالوقت للكلأ الكثير، وعليهم بالرحيل: سيارة بيك آب، بندقية كلاشينكوف تلمع على كتف أحد الرعاة، كلبٌ قوي، تيس، كبش، حمار حكيم، وبضعة مئات من الماعز والغنم، أطفال بعيون زرقاء، تئز عصيهم وهم يهشون بها القطيع المتهادي على طريق "هامِلتون" فيتوقف السير لبضعة دقائق، فالطريق نحيفة.. على اليسار الجبل الشاهق العظيم.. بجروفه وكتله الكبيرة.. وعلى اليمين النهر.. الذي يرقّ ويشفّ ويميل، يختفي، ليظهر ظهره لامعاً كأفعى مائية. وهو في طريقه يتقوى ويشتدّ بسيلان الينابيع عليه.. مباركاً هو ماء الينابيع بارد متشقق صيفاً، حار كتوم شتاءً، يفيض من شقوق الجبال
ـ لقد قلّتّ هذه الينابيع، فجنود صدام أغرقوها بالإسمنت المسلح.. سدّوا الكثير منها، لكن الأهالي بعد الإنتفاضة أزاله، أو هي تدفقتْ في مكان آخر، فليتذكر المسافر العامودي.. نبع "عوينيكي" فليتذكر طويلاً شبابه الأول العذب، في ظلال كتب والده الشيخ، تلك الظلال الخضراء التي ظلّت ترافقه أبداً في غيابه وحضوره، في تجليات الحنين، وشطحات الجهات على ذاكرته، هو العمر يمضي.و يمضي مثل نهر "كَلي علي بك" علي بك الإيزيدي الذي قُتل عند تدفق الشلال، فُسمي باسمه، من قتله؟ وكيف قُتل؟ ومتى؟ لا يعرف المسافر المحبّ لملك طاووسهم، ولأسطورة الخلق والحياة والموت، لكن في يقينه جلب معه شعراً غريباً لقوّالهم "حسن قوّال إلياس" : "قول خاتم الجَسَورِين" بكرديتها الركيكة، لكن الصادقة العميقة، سوف يترجمها المسافر إلى العربية، وسينشرها في "حجلنامه". نسيم هو ما شعر به في الصعود من حوض شلال "كلي علي بك" صوب أحد جسور هاملتون، نسيم باردٌ، ليس منعشاً، ولم يكن رقيقاً، فقد سمع المسافر صرخة ناحلة، إستغاثة كتومة.. إمتزجت مع هدير الماء، هل كانت قادمة من حنجرة القتيل الإيزدي في عذاباتهم القديمة؟ هل من كهف قريبٍ فيه جريح من عناصر البيشمركه؟ ـ يسيل الزمن هنا ـ فربما كان الزمن في ثورة ملا مصطفى في الستينات ـ هل من تلك الجروف اللانهائية، يتدحرج منها راعٍ، ويرتطم بماء الشلال؟.. أو يسهو ماعز أسود يقظته فيهوي؟ نسيم ثقيل شعر به المسافر، فعاد من جديد إلى الشلال، غرف مقداراً من الماء الجليل، شربه، بلل شعره الأبيض، ولحيته النصف بيضاء، تساقطت قطرات على قميصه البنفسجي، مسح كفيه بسترته، حمل دفتره بغلافه الأسود اللامع، وغادر، وفي إلتفاتته الأخيرة، عاود النظر إلى تلك الطيور تحوم كفراشات حول الماء، فميّز بوضوح بينها السنونوات الثلاث.. لقد كانت تزقزق الآن مباركةً ومبللةً بماء الشلال القدسي. هي نفسها سنونوات أسلاك التيار الكهربائي المقطوع في "بير مام" وهي تنظر بست عيون كحيلة إلى النائم في غرفة فندق ميديا، غاطساً في حلمٍ : كان في عامودا يبوس يد أمه، ووالده الشيخ، واقفٌ يحثّه على العجلة بالمغادرة، فهم قادمون! يحثّه بلون كلام أخضر.. يتدفق منه الحدب، ومن عينيه بحدقتيهما الصفراوين يسيل الحنين على معطفه الشتوي.. على آذان الديك.. على صرخة الإيزدي القتيل في قرون غابرة. على البيشمركه الجريح، على طريق هاملتون، حيث تابع المسافر الكوردي طريقه إلى حاج عمران.. يقظَ الذاكرة البصرية، شدوداً، قلقاً.. هل سيرى هناك زهور السويدي التي قدمها للجنرال في السبعينات؟

كان القائد بعينيه الزرقاوين ـ لاح فيهما عتب خفيفٌ وقلقٌ ـ في إنتظارنا، لقد تأخرنا في الطريق أكثر من ساعتين إضافيتين.. كان فيهما المسافر/الطفل يكتشف وطنه! ويفكّر: سوف يطأ أرضاً طالما تمنى أن يراها، سوف يشعر بأنفاس الجنرال وهو يلف تبغه، أو يصعد الجبل بمعية حصانه وحارسه الشخصي، متأملاً الغروب المنحدر على كتفيه الجبليتين. الحرارة مرتفعة، وبين حين وآخر تهب ريح قادمة من القمم البيضاء: إنها ثلوج حاج عمران في أوائل الصيف. ريح أخرى قادمة من جهة اليسار، حيث جلستُ: تذوقتُ طعمها: رائحة البارود ممتزجةً مع رائحة خضراء قدسية. هما مزيجان من الديناميت والصلاة، مزيجان من مقر الملا مصطفى في السبعينات الذي فُجر مرتين، والجامع المجاور. فلنذهب إلى المقرّ أولاً: " وسرد لي أحد المقرّبين من الملا مصطفى البارزاني محاولة إغتيالٍ كان البارزاني هدفاً لها، وفقد محدّثي فيها إحدى ساقيه. فقد طلب وفد من رجال الدين الشيعة العراقيين في حزيران من عام 1971 السماح له بمقابلة البارزاني للتباحث معه حول إمكانية إستخدام البارزاني لنفوذه وعلاقاته التي كانت ماتزال "ودية" مع النظام في بغداد. إلا أن الذي حدث هو أن الوفد الذي وصل إلى مقر البارزاني في حاج عمران يوم لم يضمّ رجال الدين الأربعة المعلن عن تكوّن الوفد منهم فقط، بل ثمانية من رجال الدين، أو بالأحرى ثمانية رجال يرتدون ملابس رجال الدين. وأظهرت التحقيقات اللاحقة أن الإستخبارات العراقية قد ألحّتْ على إضافة أربعة من عملائهاإلى وفد رجال الدين الشيعة، وأخبرتْ عملاءها بأنه قد تمّ نصب أجهزة تسجيل تحت أرديتهم، ينبغي عليهم تشغيلها حال بدء الحديث مع الزعيم الكوردي، وذلك لتسجيل كل مايقوله، وما يعلن عنه من ملاحظات معادية للدولة والحكومة. وبسبب الإحترام الذي يبديه الكورد للدين ولرجاله، فقد سمح الحرس بمرور الوفد دون تفتيش بدني. وعندما دخل البارزاني الغرفةَ لم يكن لديه أي شك بما دبّرته أجهزة الإستخبارات العراقية، وبينما كان أحد الشبّان يقدّم أقداح الشاي التي لا يمكن أن يبدأ حديث لدى الكورد بدونه، قام أحد عملاء الإستخبارات ـ حسب ماهو متفق عليه ـ بالضغط على زر جهاز "التسجيل" المربوط تحت ردائه، لتسجيل تفاصيل الحديث الذي كان على وشك أن يبدأ، إلا أن هذا العميل لم يعش طويلاً ليعرفَ أن الذين كلّفوه بهذه المهمة، قد قاموا في الواقع بخداعه، وأنهم قد زرعوا في الواقع قنبلة تحت ملابسه تنفجر حال الضغط على زر "التسجيل"، فقد مزّق إنفجارٌ هائلٌ جسده وجسد الشاب الذي كان يقدّم الشاي، كما مات كذلك رجال الدين الحقيقيون والمزيفون أيضاً نتيجة إنفجار القنابل المربوطة تحت أرديتهم، والتي كانت مركبة بصورة تنفجر إنفجاراً إلكترونياً في وقت واحد. إلا أن البارزاني الذي قذفته قوة الإنفجار إلى إحدى زوايا الغرفة، قد ظلّ سالماً، لم يمسّه أي سوء، سوى خدوش بسيطة لآ تُذكر. وحال سماع سوّاق سيارات التويوتا المنتظرين قرب البناية التي تطاير زجاج نوافذها بفعل الإنفجارـ الدويَّ الهائل، قاموا بضرب ما يحيط بهم بالقنابل اليدوية، لشق طريق الهرب، إلا أن حرّاس البارزاني قاموا فوراً باطلاق نيران بنادقهم الكلاشينكوف على السيارات التي حاولتِ الهربَ، وبقي أحدُ هؤلاء السوّاق على قيد الحياة لبضعة ساعات كانت كافية للحصول خلالها منه على معلومات كافية لتحديد خلفيات العملية، والجهة التي قامت بتخطيطها.
(د. كونتر دشنر)

كان هذا المقرّ قد شُيّد في الستينات، وأشرف على بنائه الملا بنفسه، يطل على "حاج عمران" وكان مكاناً للزيارات والمراجعات للقائد الإسطوري، يشرب فيه الشاي، ويتشاور مع مستشاريه والأهالي، يقرأ فيه رسائل الحب من شعبه، أو يستمع إلى شكوى مظلوم، فيتابعها بحسم وعدالة، ويمحو الظلم في حينه. مقرٌ متواضعٌ لرجل كانت أنظار العالم متجهة نحوه، مسبوقاً بأنظار شعبه الكوردستاني، ومع ذلك ظل متواضعاً بسيطاً وخجولاً، يلف تبغه البلدي بيده، ويقدم سجائر لضيوفه بيده، وربما أشعلها بيده، هو الجنرال الملا مصطفى، ينتظر قدوم ضيوفه المقدّسين، سيتحدثون بإيمان، لكن أولاً سيشربون الشاي الكوردي المحضّر في الغرفة الجانبية، ثم سيذهبون سوية إلى الجامع .. سيصلي بهم إمام الجامع مكبّراً لله والدين والأخوة
كان الجنرال هكذا يتمتم بينه وبين نفسه، قبيل اللحظات التي دخل فيها رجال الديناميت المخدوعين، سينحني قليلاً بقامته الصلبة القصيرة، وهو يصافح بقوة جبليّ ضيوفه. في وقوفي على أطلاله: بناء متهدم تماماً، السقف الإسمنتي مطبقٌ على الجدران المتهدمة، بل المفجّرة. أقف قبالته بخشوع، وأسمع صوته: تقدّم. إنه صوت سيدي الجنرال ملا مصطفى، يناديني، فأتقدم أكثر.. أنحني على الإسمنت وأمسده بكفيّ: خشنٌ حارٌ وقلقٌ، أبصر في تلك اللحظة فتاة صغيرة في الجانب الآخر من البناء وهي تُبعد عنها ماعزاً أسودَ يتشممها، كانت ضجرة ومتبرمة من شمس الظهيرة، أتلمس الإسمنت والهواء، صهيل الحصان البعيد وتمايل زهرة تفتحتْ بين حرارة تلك الظهيرة الحارة، فمالت بعنقها وهي تلاحق خطوات الجنرال العجولة من كوردستان الى أبواب كرملين.. يدق عليها دون جدوى. "بعد أيام من موت ستالين، سافر المنفيّ ملا مصطفى ـ الذي عمل خلال فترة منفاه في مزرعة للفواكه ـ إلى موسكو، فذهب إلى مكتب إستعلامات الكرملين، وطَرَقَ بشدة على الباب، وعندما سأله أحد الحرّاس عمَّ يريد؟ أجاب البارزاني: ـ لستُ أنا من يطرق، إنها الثورة الكوردية تطرق على باب الكرملين!" هارفي موريس وجون بلوج زهرة الظهيرة، تلاحق يده القوية وهي تصافح "رجال الدين" بحرارة داعية لهم بالجلوس، فيجلسون، ثم يجلس هو، يخرج كيس تبغه، ويلف السجائر لهم.. يسألهم عن مشاق السفر على طريق هاملتون الذي كان منهمراً على صخوره وحديد جسوره، في تلك اللحظة يدخل عنصر من البشمركه من الباب الجانبي على جهة اليسار.. في آخر غرفة جلوسهم، يحمل صينية من الألمنيوم المنقوش عليه صورة طاووسين متقابلين، وفي أعلاها مكتوب "الله أكبر"، ليست كتابة، بل طرقٌ بازميل.. فتبدو نافرة.. أو مدقوقة على هيئة طرقات متوالية منتظمة. على الصينية خمس عشرة كأساً مذهبة في خصورها، وممتلئة شاياً عَطِراً. يتقدم الشاب الرقيق مثل ريحان، ويقدّم الشاي لضيوف الجنرال أولاً.. لكنها الرائحة المجنونة والتي بات الجنرال يشتمّها منذ بضعة ثوانٍ، في الإنحناءة الأخيرة لعنصر البيشمركه، صاحب القامة النحيلة مثل ريحان، تنفجر في عطفة الصالون الكبير، وفي الرواق الطويل الجانبي.. وعلى الأحاديث التي تخرج من سؤال الجنرال: ألم يتعبوا على طريق هاملتون؟ وأجوبتهم المقتضبة المبهمة في: لا، ياسيدي... إنفجرت كلمة لا، والترحيب والسؤال، إنفجر الزمن وغبار الشهر السادس الواضح من خلال حزمه على ضوء شمس كوردستان، وحركة يد الملا اليمنى في حثّ ضيوفه "المقدّسين" على الجلوس.. مباركين. أحوم حول المبنى عدة مرّات، أعاين التاريخ، والإسطورة والغدر.. فأشم رائحة القدسية في الجانب القريب، على مبعدة بضعة خطوات عجولة، إنه المسجد الذي كان يؤومه الجنرال بمفرده، وأحياناً مع ضيوفه، لكن ليس مع رجال الديناميت كما كان يفكرّ قبل إستقبالهم.

مسجدٌ بسيطٌ، هو الآخر كان قد تعرّض للقصف بطائرات البعث الرحيمة، من صنع دولة أممية، كانت تصرخ هي وأبواقها الأممية ليلاً نهاراً بالدفاع عن حركات التحرر في العالم، وتزلق بأسلحتها الطيّارة إلى أشد الدكتاتوريات عنفاً، مثاقيلُ، أسلحةٌ، لماذا لون السلاح غامضٌ؟ مسجدٌ أليف.. شُيدَ على أطراف "حاج عمران" في منتصف سفح جبلٍ إسطورةٍ، الأخضر العالي يخفق بالقدسية، وبضعة مصلّين، في بهو المسجدالخارجي يتأملون المقرَّ، أعطافهم مباركة، ولحاهم نابتة ربما منذ أسبوع، تلفّهم شمس ظهيرة ذلك اليوم، عيونهم الزرقاء تبرق بحزن خفيٍ، وأنا أتقدم إليهم، لأصافحهم بحرارة إبن لشيخٍ بعيدٍ، أردتُ معرفة حزنهم، فلم أعرف، أدخل المسجد الذي كان قد دخله مئات المرات جنرالي العجوز، مع ضيوفه المباركين في مشارق الأرض ومغاربها، فقط لم يدخل المسجد مع رجال الديناميت، أعيد الزمن في لحظات، ماذا لو كنتُ الآن في عام 1970، ضيفاً عنده، لصليّنا سوية، سوف أجلس بجانبه على السجاد المضفور بيد الكورديات الصبورات، وهو يرتجف قليلاً، وأنا أرتجف قليلاً، القليل الذي مسّني في المسجد، في لحظات وجود جنرالي بجانبي، نخرج ـ الجنرال الملا مصطفى البارزاني، وأنا ـ وراءنا الشاب النحيل الذي قدم الشاي لرجال الديناميت ـ أراه كيف ينظر إلى ساعته القلقة ـ الساعة التي سأراها لاحقاً ـ والتي وتحت إلحاح المسافر، أحضرها الأخ الرئيس مسعود البارزاني، سأرتعش آنذاك وأنا أحملها، بين يدي، ساعة بميقات زاهدٍ في الجبل. نخرج من بهو المسجد إلى فسحة الجبل، الفتاة الصغيرة مازالتْ متمددة تحت ظلال الظهيرة الملولة، تحت جدارية مقر الباززاني
ـ بعد دخول جيش صدام حاج عمران، وضعوا الديناميت في أرجاء المبنى، ثم فجّروه مرة ثانية، فأطبق السقف بكلكله على الجدران وعلى رائحة الشاي العطر المنبعث من أقداح نحيفة، ثم غادروا مسرعين، لئلا يبقى البناء ذكرىً من رجال الديناميت. يقول القائد محمد عبابكر ده ربندي
حاج عمران هي قرية كبيرة الآن تضم بين جنباتها حوالي ثمانين منزلاً، بعد أن كانت تضم حوالي ثلاثمائة منزل، لكن الأسطورة تخفق في سمائها واضحةً: تاريخٌ من أكثر الثورات الكوردية دواماً، قادها رجل جبليٌ عتيدٌ طيلة عذاب وعناد لايُضاهى، بأسلحة هي القلوب كفوءةً بجبالها، حيث في الجهة المقابلة من حاج عمران، يلوح للمسافر في أعلى القمة، بياضٌ بياضٌ ليس وقته في قيظ الظهيرة، إنها ثلوج حاج عمران طيلة الفصول، تبقى في الأعالي خافقةً ببرودتها؛ في السويد في أقصى شمالها كذلك ثلجٌ وأيائلُ، مثلما هي الآن في كوردستان، الأيائل التي سيراها المسافر في جروف بارزان مقدسة، ومن يملك الشجاعة في إصطيادها، فهي محمية بقرارٍ روحي إسطوري، الأيائل التي كان المسافر يعتقد أنه إبنٌ لها، رضع منها المجازفة وربما بعض الوقاحة، والكثير من الحب، أرى دخاناً بعيداً يتدفق من الحكايات، دخان قدسي ، تحول إلى نبعٍ مباركٍ أشرب من مائه تالياً، دخان الرعاة ـ أخوالي ـ فلأسردنّ حكاية شيخ "بالكان" في حاج عمران: كان الشيخ في تقواه الجليل، منزله في مكان ما من حاج عمران، سأهتدي إلى قبة مزاره، الذي يتدفق بالقرب منها الماء الأخضر، يملك الكثير من الماشية، وفي عهدتها إلى راعي حاج عمران التّقي، أكثر من شيخه، كما تقول الرواية الأكثر دقّةً، كان يختفي هو والمواشي وعصاه التي يهش بها، وفروته، وعيناه الزرقاوان، والثغاءُ الحاد لسخلات الجبل، والجحش، والحنين، يختفي عشب المرعى، الجدول، المباركات، الحليب. ليعود هذا الحليب مباركاً، له طعم "مكة والمدينة" له رائحة النبي وصحابته، رائحة الصحراء، يستغرب أهل حاج عمران، وهم يتفقدون الراعي فلا يجدونه، وقطيعه، هو يطير مع أغنامه في الليل إلى مكة ومدينة، ليتغبّدَ، أين تذهب خرافه،؟ أين يذهب الثغاءُ؟ إلى الجنةِ، يقول صديقي القائد الأزرقُ، هكذا تواردتِ الحكايةُ من شفة ترتجف إلى شفة تنهل من ماء جليل، شفاه البيشمركه هذه المرة، مسبوقة بعزيزهم، نفسه العنصر الرقيق النحيل، الذي أهداني زهور المطر، يقدم لي برقة ماء "زمزم" كما قال، وكما شربته بصفته المباركة تلك. وليستعدِ الزمنُ قديمَه، في السبعينات، أهو نفسه الذي قدم الشاي، بنحوله ورقّته، فتمزّق بالبارود؟ مااسمه؟ أين قبره؟ ياالدليل من سيدلّني؟ هو القائد بعينيه الحنونتين هذه المرة: ـ أترى دخّان الجبل؟ ـ هناك في البعيد الشامخ، كان منزل الملاّ ـ فلنذهب إليه. تنتظر سيارة لاندروفر خارجاً، وفيها أحد البشمركه، وقد جلس إلى مقودها وكلاشينكوفه بجانبه، وفي متناول يده، وعندما ينطلق في الظلام، يضيء المصابيح الخلفية فقط.. نتبع طريق هاميلتون مسافةً، وألحق أن ألاحظ بأننا قد عبرنا حاج عمران، قبل أن نخرجَ من الطريق الرئيسية إلى طريق جبلي، وبعد ذلك لا أعرف شيئاً عن وجهة سيارتنا، ولكن توجد آلةٌ لقياس الإرتفاعات ملصقة بالزجاج الأمامي للسيارة، وأرى كيف أن مؤشرها يزحف ببطء نحو1900 متر، قبل أن نتوقفَ عند بيتٍ، ألمح هيئته في العتمة. طبعاً لا أرى أي شيء من المنطقة، ولكن لدي إحساس بأننا موجودون على سفح جبل محاط بالقمم العالية. ويسقط نورٌ أبيضُ باهرٌ خارجاً من خلال باب مفتوح في أحد الأروقة.. يتبادل سيامند بضع كلمات مع أحد البشمركه، ومن ثم ندخل البيت. ينتظرنا مصطفى البارزاني وحيداً في الغرفة التي ينبعث ضوؤها من فانوسيّ بريموس يصفّران في إحدى زوايا الغرفة."
(تود فالستروم)

يلوح من على القمة المقابلة دخّان يتصاعد إلى الأعلى فيمتزج مع ثلوج حاج عمران الصيفية. هو دخان الرعاة يطبخون في قدور نحاسية أخضر الجبل، دخأنهم المبارك، وأكفهم الخشنة، وأنا أصافح أحد هؤلاء/أخوالي. يبتسم لي إبتسامة العارف، وأنا أسأله عن الكبش. كلابٌ ملولة، لكنها تظل تعوي بضراوةٍ طيلة صعودنا بسيارتي "لاند كروز" هذه المرة، ليس ثمت من آلة لقياس الإرتفاعات، لكن أشعر بخطورة الطريق المحفوف، الطريق البدائي، بقايا حجر مكسور.. ورمل وتراب، السيارة تصعد، وأنا منكمش في المقاعد الخلفية منها، تضرب رئتي هواء الجبل النقي، وأراقب كاميرا الأخ "يوسف" وهي تئز على جهات "حاج عمران" أقول له لا تفلت تصوير أخوالي الرعاة. والآن وأنا أشاهدَ الفلم، أرى كم أفلح في تصويرٍ نادرٍ وشاعري للجبل، الجبل الكوردي البليغ في صداقته لأهله. ليس للأكراد أصدقاء سوى جبالهم، لاأعرف لمن المقولة، لكنها فاحشة في خطئها، الكورد هم أصدقاء جبالهم، في حنوهم عليها، يزعلون في شق طريق لجسده، في تفجير صخره. لكن وعلى مضض يوافقون، لابد من الطريق.. هو يفيدنا، لكن يتوجع الجبل. الجبل يشعر ياالمسافر، الجبل هو حيوان خرافي > مقيد بألمنا، ويتألم، ويبكي، دموعه ما تراه من جداول، وأنهار وشلالات وسواقٍ، إنظر إلى أخوالك كيف يضرمون النار على جسده، ألا يتألم؟ تصله شواظ نيرانهم، شواظ الآلاف من القنابل على منزل جنرالك الآن، وأنت وصديقك الأنيق "إبراهيم" والقائد الحنون بعينيه الزرقاوين، تنزلون من سيارة "لاندكروز" يحفّ بكم عشرات من البيشمركه بخفتهم الطيّارة، ورشاشاتهم اللامعة على أكتافهم الشابة الرشيقة، في يدك دفترك بغلافه الأسود اللامع، في الساعة الثالثة من ظهيرة حاج عمران، الرجفة على الجبل، ها أنت في منزل جنرالك الشخصي، كيف إذن تصعد الجبل، في الوصول: بضعة مئات من أمتار صاعدة، في التسلّق، وستكون هناك، في باقة تلك الزهور التي إمتدتْ إلى كتفك اليمنى أولاً، ثم إستقرّتْ في يدك اليسرى: فتلتفتُ إلى تلك الحركة اللدنة، الرشيقة، الشاعرية، هو نفسه عنصر البشمركه النحيل، الذي قدم الشاي للملالي، فمحته النار والحديد. ـ إنها زهور المطر، ولاتُهدى إلا لعزيز. يقول القائد الأشقر. فأرتبك في بلاغة اللغة الكوردية: ـ سباس... سباس، زور سباس )شكراً، شكراً، الشكر الكثير( سأحبها كثيراً.

في السفح المنبسط المحيط بالمنزل، سأضع دفتري على عشبٍ طريٍّ، تتهادى عليه "زهور المطر"، وفي الإلتفاتة للجهات، سأسمع أزيز الطائرات العسكرية، وهي تحوم حول هذا المنزل، وتقصف، وتغيب، تعود مجدداً، تقصف، تغيب، تعود إلى عدد لانهائي، وأنا أسأل القائد، هل قُصف هذا المنزل، يستغرب من سؤالي، آلاف المرات، لكن الأسلحة القليلة المضادة للطائرة كانت تمنعها في إصابة الهدف الوحيد الأوحد لقوات صدام الطائرة، تعود الطائرات الأممية، وترمي بنارها الحنونة على منزل لاشيء فيه، غير أسطورة هو الجنرال ملا مصطفى، غرفٌ عديدة، منزل أكثر من عادي، بضعة غرف، الصالون الكبير على المدخل، غرفة كبيرة، أتصور بأن السويدي الزائر جلس فيها، وهناك أعطاه بصلات الزهور، التي تأملها بعمق لدقائق، أسمع صوت السويدي، وأفهم مايقوله، أسمع صوت جنرالي، وأفهم شكره الكوردي المقتضب، الحار والصادق:

ـ سباس، أزبني، سأزرعها في أسفل المنزل. ممنون. لو كنتُ هناك، هل كنتُ المترجم؟ نعم ياالمسافر. يلفُّ له سيجارة من كيس تبغه المحلي، كانا جالسين في كرسيين قربين بينهما طاولة صغيرة عليها بضعة تقارير عن وضع الجبهة العسكرية، قصيدة قدري جان مهداة له، أوراق مكتوبة بخط اليد فيها بضعة قصائد لمولانا خالد الكوردي النقشبندي، بلغته الكوردية الصعبة، خليطة الفارسية القديمة والكوردية الأقدم، وساعته تركها فوق الأوراق. تهبُّ نسمة الجبل متدفقة على دخان سيجارة جنرالي فقط، فقد إعتذر السويدي، فهو لا يدخن : لكن من جنابكم سأخذ السيجارة، هدية منكم. أدخل المنزل المهجور، الحيطان مسودة، وثمت ثقوب كبيرة في السقف، هي في قصف الطائرات الرحيمة، بعد ترك الجنرال المنزل، غرف عديدة، هي الجبل طيلة ستين عاماً، غرف في الوحشة الباهظة على الغياب، لِمَ لَمْ يتحول إلى متحفٍ! سؤال سأتوجه به الآن وأنا في الغياب البعيد لأخي الكبير مسعود البارزاني.

أحس برائحة الدخان على الجدران المسودة، برائحة زهور المطر، بالتبغ الطري، بعبق جنرالي الذي يلهث قليلاً من التبغ والعمر، والتقارير القلقة القادمة من الجبهة. ثمت غرفة معزولة اكاد الجزم هي غرفة العزلة له، ففيها تهدأ أزيز الطائرات، فيراجع التاريخ الكوردي الدموي الكثير: ـ يامولانا خالد.. يشهق سيدي الجنرال في هذا المنزل، وهو يودع السويدي، وهو يودعني عند البهو المطل على الجبل والعشب وصهيل حصانه البرتقالي في تلك اللحظة التي يطل منها على مساء حاج عمران، فيراه الحصان، يشمه بخطمه، ويعرف أنه سيده الجنرال، فيصهل.. صهيلاً مثل جرس أخضر. ـ بقي حصانه في حاج عمران بعد ترك الملا لها، حزيناً، ساهياً، ثم مات. يقول محمود القائد.

تجولتُ في المنزل الشخصي، ما تمكنتُ، لكن كثافة البشمركه، أحرجني، إرتبكتُ في الكثير الخجول، والكثير المتواضع، أخوتي البيشمركه، يتطوعون في تفسير أي شيء، علومهم علوم الفلك الكردي الدقيق المتقن، علوم الجبل الذي لاأتقن معرفته كما يليق بكردي، ندخل المطبخ العائلي، ثمت الرائحة المتواضعة للجنرال في قلة أكله، ولا إهتمامه بالمطلق بما يُقدم له، هلى كان يأكل في غرفة المطبخ، أم تحت ظل صخرة كبيرة، أم أمام جدول ما؟ مسيل مبارك من ماء متشقق يسيل في منحدر أسفل البيت من الجهة الخلفية، حيث الإنحدار الذي يشعشع مرمياً بأعشابه ونباتاته وزهور المطر نحو الأسفل البعيد، نحو الأعلى الجدير بالأبيض المبارك البارد، ثلوج حاج عمران أوائل الصيف، ماذا لو كانت كوردستان في غير دمها الكثير، الذي سال كجدول، طلباً لعَلَمٍ، لشهقة حب، لشتيمة بين محبين بالكردية؟ دون السلاح اللامع لقتلة الحلم الكردي منذ متى! لاأعرف، لكن منذ زمن عتيق، دونه أسلافنا الكبار الشعراء، أين الفلسفة الكردية؟ لاأعرف، لكن أعرف هذا الإنحدار الرقيق نحو متاهة النفق القديم الذي حفره البيشمركه في السبعينات إتقاء من غارات الطائرات لجنرالهم/ لجنرالي، أسفل المنزل، والذي طواه النسيان والوحشة والزمن. يهدر في أسفل الفضة السحرية لجبل حاج عمران. يتقدم البيشمركه عزيزهم، مصباح يدوي واحد لإضاءة النفق، في الأمتار الأولى ضوء كوردستان ينير ظلمة الحجر الجبلي العتيد، محفوراً ببدائية، لكن بروح إزميل سماوي، يتهاطل إلى أكثر من ثلاثمائة متر، ثلاثمائمة وخمسين متراً ربما يقول القائد، بعينيه وهماتبرقان في ظلام النفق الآن، في الخفافيش النائمة في السقف، أقول لأخي البشمركه: لأراها كيف هي نائمة مقلوبة، مخالبها الرقيقة، تغفو على السقف، فتتهادى على الأرضية الحجرية، حجر في الجوار، ونحن ـ البشمركه وأخي إبراهيم الأنيق، وأناـ وفي هدأة الظلام/ الكلام: علينا جميعاً أن نمسك بأيدي بعضنا البعض، النفق الآن ينزلق إلى الأسفل، إلى جهة الحصان، الذي صهل البارحة، وهو يرى بعينيه الكهربائيتين جنراله يخرج إلى السفح، مودعاً السويدي: ـ فليرافقك سيامند، طيلة وجودك. أزبني. أتمنى أن تكتب عن الكتف الكردية الجريحة في هذا المكان المنسي من الخطوط في سجلات الدول الرسمية
Ja..Ja, Herr Barzani ـ
يقول السويدي.
ـ نعم. نعم سيدي بارزاني. يترجم سيامند، الذي هو المسافر الكوردي البعيد، هذه المرة. يبلغ طول النفق حوالي الثلاثمائة إلى ثلاثمائة وخمسين متراً، وله ثلاثة منافذ، كل واحد يطل على جهة من جهات كوردستان الجبلية، دخلنا النفق من المنفذ الخلفي للمنزل، وخرجنا من المنفذ الأمامي للمنزل، وإنبثق ضوء بنفسجي من جهة اليسار، ونحن نجتاز المنفذ الثالث، والضوء الراعل من مصباح البيشمركه يتساقط وديعاً على الحجر الذي ضمّ جنرالي مرات عديدة، وهو ينأى عن المعدن الرصاصي اللامع الأممي والغربي، الشرقي والغربي على السواء
ـ لماذا؟
أخرج من المنفذ لاهثاً، وخائفاً قليلاً، أجلس على الأرض أمام المدخل المخرج، وآخذ صوراً، أراها الآن كم أبدو شاحباً أمام جبل لايعتد إلا بأهله، وأنا إبن للجبل، هاجر جدي القديم " بافي كال " من أطراف دياربكر، واستقر في جبل ما هناك، إلى حين وفاته، ودفنه في مقبرة، ستتحول تالياً إلى مزار مقدس كبير، للكثير من الكورد، لكن بالنسبة لنا ـ نحن أحفاده ـ في تشتتنا الكثير، لن نزوره، لن نرى قبره الأخضر، وهو يغفو حيناً، ويستيقظ من غفوته الكبيرة، يفتح عينيه، فلربما رمت الأقدار الكوردية بأحد أبنائه إلى حضرته، طالباً منه أن يرى أبناءه، في مشارق الأرض ومغاربها، وقد نسوه، فيعاتبهم بلهجتهم العالية الباذخة العصبية
ـ إقرأوا
وأنا أحد أحفاده، سأمر بالجوار من مرقده، لكن أية علوم ستدلني أنه هناك،
ينتظرني

فصل من كتاب معد للطب

في الطريق إلى " حاج عمران

محمد عفبف الحسيني      
(كاتب كردي، مقيم في السويد)     

ماذا تبقى ؟"  
       ربما في " حاج عمران" سألنا بعضنا عن كأسنا، هذي التي نحن إنتقيناها، وهيأنا موائدنا الصبيغة بالدم الوطني كم كان اليساريون مبتدئينّ كم كان المغني خافتاً

سعدي يوسف


تبعد "حاج عمران" عن الحدود الإيرانية مسافة خمسة كيلومترات، وهناك
يحتشد عبق الجنرال ملا مصطفى البارزاني، عبق قديم مغمور بالعذاب والأمل والصلابة والقليل من اليأس، عبق الجبل الإسطوري، والحكايات الإسطورية من أين سيبدأ المسافر (أهو حقاً المسافر، أم العائد إلى بلده؟), لايعرف المسافر المسافة بالتحديد الجغرافي ما بين المدينتين الجبليتين لكن السائق يكون في إنتظاره الثامنة صباحاً، لقد إنتهى للتو من قهوته، معه نصف دزينة من الأقلام، ودفتر بغلاف أسود سيظل يرافقه مثل ظله طيلة وجوده في الجبال حريصاً عليه مثلما يحرص على سماع صياح ديكه المتباهي بصوته الحاد، في ذلك اليوم

يستيقظ المسافر أبكر مما إعتاده ديك الفندق ـ هل سيصيح هو هذه المرة ليستيقظ صديقه الديك ـ إنها الساعة الخامسة في كوردستان، السادسة في عامودا، السابعة في السويد. إلى أيها سينتمي؟ تقلّب في سريره.. تأمل عريشة العنب المتبخترة على نافذته العريضة. تأمل السنونوات الثلاث النائمات على سلك الكهرباء المقطوع: وديعة، هادئةً، ناعمة.. (الياً سيكتشف المسافر وجود عشها المعلّق في سقف الفندق، على جهته الداخلية.. حيث بهو صغير.. تأتي بعده غرفة العمال الرقيقين كسنونوات الأسلاك) يستيقظ المسافر: هاهو أخيراً يقترب من جنراله الذي طالما أحبّه، وكان في وجدانه أن يلتقي به شخصياً. لقد إلتقى برفاقه الأكثر قدماً: رفاق مسيرته التاريخية من "مهاباد الدامية.. إلى ضفاف آراس" والتي جاء المسافر خصيصاً من أجل لقاء هؤلاء الذين أصبحوا أصدقاءه الحميمين، بأعمارهم الطاعنة في الذكريات والرحيل "فليترك المسافر شغفه بهم في كتاب خاص" أولئك الكبار سناً وحياةً وتضحية، فقط ليتذكر الآن مولاه "محمد عيسى" الثمانيني بذاكرته

البارقة مثل شلال " كَلِي علي بك" الوقفة الأولى في الطريق المثير والشهير إلى "حاج عمران"/ طريق "هاملتون"

ولد هاملتون، عام 1889 في نيوزيلندا من أبوين إسكتلنديين، ولكونه مهندساً متخصصاً بالطرق والإنشاءات، فقد دعته حكومة الإنتداب عام إلى العراق، ليشرفَ على بناء طريق في منطقة كانت البغال والدواب تشكّل وسيلة النقل الوحيدة الممكنة فيها. وقد تمكن هاملتون من بناء الطريق بالإستعانة بالأيدي العاملة المحلية فقط، واضطر إلى تفجير كتل صخرية هائلة وبناء شرفات على سفوح جبلية شديدة الإنحدار، كما قام خلال عمله في كوردستان بتطوير إسلوب ونظام متكامل لبناء الجسور الحديدية، أدى إستخدام هذا النظام في الحرب العالمية الثانية والسنوات اللاحقة، إلى إكتسابه شهرة وسمعة عالميتين. وكان المبدأ الذي جاء به هاملتون يعتمد على الإنتهاء من بناء قطع صغيرة خفيفة، يتم نقلها في ظل أجواء وظروف شاقة جداً إلى المكان الذي كان مخططاً أن يُقام الجسر فيه، ويتم هناك تجميع هذه القطع وتركيبها، وتم بهذه الوسيلة بناء أكثر من ألف جسر من جسور هاملتون في مختلف أرجاء الإمبراطورية البريطانية، وقام هاملتون ببناء كل هذه الجسور بعد أن قام بتجربتها وتطويرها على الوديان وفوق الهاوية التي يمر في قعرها نهر راوندوز عام 1930 ، لقد تحول هاملتون من خلال بناء هذا الطريق إلى أكثر أصدقاء الكورد تحمساً لقضيتهم
(د. كونتر دشنر)

ـ هو ليس قوياً كما كان، هو كذلك منذ عامين، فالأمطار كانت قليلة. يقول الأخ إبراهيم الأنيق.. إبن هذه الجهات الجبلية الوعرة إلى درجة الخطورة. ولكن الشلال يبدو للمسافر متدفقاً.. أبيضَ.. يرتطم ماؤه بصخور إخضرتْ في الرطوبة وانزلقت قليلاً إلى الحوض المائي، الذي يتطاير فوقه طيور بكثرة،. هل كانت السنونوات الثلاث هنا؟ إنها تلعب، تُسقط نفسها في الحوض، أو تظل ترفرف بأجنحتها وعظامها الرقيقة أمام رذاذ الشلال، وتعود إلى الأعلى حيث أوكارها، أو أعشاشها محفورة في صخور "كَلي علي بك".. يهدأ ماء الشلال قليلاً في الحوض، هدوءاً أزرقَ غامضاً، ليتابع طريقه من جديد حافراً في جبال إسطورية قاسية طريقه الهادىء الذي سيرافق المسافر إلى أبعد من جهته. أين يصب هذا النهر.. وهو يرتوي بأسطورة الجبال. والتاريخ الدموي المرشوش على ذاكرة الكورد في جهات كوردستان أجمعين؟ في الطريق الممتع رأى المسافر فيما يرى النائم اأخواله الجبليين المنحدرين من جبل عبد العزيز"الكوجر" وهم يقودون قطعان مواشيهم الى حيث العشب الازرق في جهات الجبل العتيد، رآهم بكثرة.. رأى بيوتهم الرومانسية وهي مهجورة تماماً، فالوقت للكلأ الكثير، وعليهم بالرحيل: سيارة بيك آب، بندقية كلاشينكوف تلمع على كتف أحد الرعاة، كلبٌ قوي، تيس، كبش، حمار حكيم، وبضعة مئات من الماعز والغنم، أطفال بعيون زرقاء، تئز عصيهم وهم يهشون بها القطيع المتهادي على طريق "هامِلتون" فيتوقف السير لبضعة دقائق، فالطريق نحيفة.. على اليسار الجبل الشاهق العظيم.. بجروفه وكتله الكبيرة.. وعلى اليمين النهر.. الذي يرقّ ويشفّ ويميل، يختفي، ليظهر ظهره لامعاً كأفعى مائية. وهو في طريقه يتقوى ويشتدّ بسيلان الينابيع عليه.. مباركاً هو ماء الينابيع بارد متشقق صيفاً، حار كتوم شتاءً، يفيض من شقوق الجبال
ـ لقد قلّتّ هذه الينابيع، فجنود صدام أغرقوها بالإسمنت المسلح.. سدّوا الكثير منها، لكن الأهالي بعد الإنتفاضة أزاله، أو هي تدفقتْ في مكان آخر، فليتذكر المسافر العامودي.. نبع "عوينيكي" فليتذكر طويلاً شبابه الأول العذب، في ظلال كتب والده الشيخ، تلك الظلال الخضراء التي ظلّت ترافقه أبداً في غيابه وحضوره، في تجليات الحنين، وشطحات الجهات على ذاكرته، هو العمر يمضي.و يمضي مثل نهر "كَلي علي بك" علي بك الإيزيدي الذي قُتل عند تدفق الشلال، فُسمي باسمه، من قتله؟ وكيف قُتل؟ ومتى؟ لا يعرف المسافر المحبّ لملك طاووسهم، ولأسطورة الخلق والحياة والموت، لكن في يقينه جلب معه شعراً غريباً لقوّالهم "حسن قوّال إلياس" : "قول خاتم الجَسَورِين" بكرديتها الركيكة، لكن الصادقة العميقة، سوف يترجمها المسافر إلى العربية، وسينشرها في "حجلنامه". نسيم هو ما شعر به في الصعود من حوض شلال "كلي علي بك" صوب أحد جسور هاملتون، نسيم باردٌ، ليس منعشاً، ولم يكن رقيقاً، فقد سمع المسافر صرخة ناحلة، إستغاثة كتومة.. إمتزجت مع هدير الماء، هل كانت قادمة من حنجرة القتيل الإيزدي في عذاباتهم القديمة؟ هل من كهف قريبٍ فيه جريح من عناصر البيشمركه؟ ـ يسيل الزمن هنا ـ فربما كان الزمن في ثورة ملا مصطفى في الستينات ـ هل من تلك الجروف اللانهائية، يتدحرج منها راعٍ، ويرتطم بماء الشلال؟.. أو يسهو ماعز أسود يقظته فيهوي؟ نسيم ثقيل شعر به المسافر، فعاد من جديد إلى الشلال، غرف مقداراً من الماء الجليل، شربه، بلل شعره الأبيض، ولحيته النصف بيضاء، تساقطت قطرات على قميصه البنفسجي، مسح كفيه بسترته، حمل دفتره بغلافه الأسود اللامع، وغادر، وفي إلتفاتته الأخيرة، عاود النظر إلى تلك الطيور تحوم كفراشات حول الماء، فميّز بوضوح بينها السنونوات الثلاث.. لقد كانت تزقزق الآن مباركةً ومبللةً بماء الشلال القدسي. هي نفسها سنونوات أسلاك التيار الكهربائي المقطوع في "بير مام" وهي تنظر بست عيون كحيلة إلى النائم في غرفة فندق ميديا، غاطساً في حلمٍ : كان في عامودا يبوس يد أمه، ووالده الشيخ، واقفٌ يحثّه على العجلة بالمغادرة، فهم قادمون! يحثّه بلون كلام أخضر.. يتدفق منه الحدب، ومن عينيه بحدقتيهما الصفراوين يسيل الحنين على معطفه الشتوي.. على آذان الديك.. على صرخة الإيزدي القتيل في قرون غابرة. على البيشمركه الجريح، على طريق هاملتون، حيث تابع المسافر الكوردي طريقه إلى حاج عمران.. يقظَ الذاكرة البصرية، شدوداً، قلقاً.. هل سيرى هناك زهور السويدي التي قدمها للجنرال في السبعينات؟

كان القائد بعينيه الزرقاوين ـ لاح فيهما عتب خفيفٌ وقلقٌ ـ في إنتظارنا، لقد تأخرنا في الطريق أكثر من ساعتين إضافيتين.. كان فيهما المسافر/الطفل يكتشف وطنه! ويفكّر: سوف يطأ أرضاً طالما تمنى أن يراها، سوف يشعر بأنفاس الجنرال وهو يلف تبغه، أو يصعد الجبل بمعية حصانه وحارسه الشخصي، متأملاً الغروب المنحدر على كتفيه الجبليتين. الحرارة مرتفعة، وبين حين وآخر تهب ريح قادمة من القمم البيضاء: إنها ثلوج حاج عمران في أوائل الصيف. ريح أخرى قادمة من جهة اليسار، حيث جلستُ: تذوقتُ طعمها: رائحة البارود ممتزجةً مع رائحة خضراء قدسية. هما مزيجان من الديناميت والصلاة، مزيجان من مقر الملا مصطفى في السبعينات الذي فُجر مرتين، والجامع المجاور. فلنذهب إلى المقرّ أولاً: " وسرد لي أحد المقرّبين من الملا مصطفى البارزاني محاولة إغتيالٍ كان البارزاني هدفاً لها، وفقد محدّثي فيها إحدى ساقيه. فقد طلب وفد من رجال الدين الشيعة العراقيين في حزيران من عام 1971 السماح له بمقابلة البارزاني للتباحث معه حول إمكانية إستخدام البارزاني لنفوذه وعلاقاته التي كانت ماتزال "ودية" مع النظام في بغداد. إلا أن الذي حدث هو أن الوفد الذي وصل إلى مقر البارزاني في حاج عمران يوم لم يضمّ رجال الدين الأربعة المعلن عن تكوّن الوفد منهم فقط، بل ثمانية من رجال الدين، أو بالأحرى ثمانية رجال يرتدون ملابس رجال الدين. وأظهرت التحقيقات اللاحقة أن الإستخبارات العراقية قد ألحّتْ على إضافة أربعة من عملائهاإلى وفد رجال الدين الشيعة، وأخبرتْ عملاءها بأنه قد تمّ نصب أجهزة تسجيل تحت أرديتهم، ينبغي عليهم تشغيلها حال بدء الحديث مع الزعيم الكوردي، وذلك لتسجيل كل مايقوله، وما يعلن عنه من ملاحظات معادية للدولة والحكومة. وبسبب الإحترام الذي يبديه الكورد للدين ولرجاله، فقد سمح الحرس بمرور الوفد دون تفتيش بدني. وعندما دخل البارزاني الغرفةَ لم يكن لديه أي شك بما دبّرته أجهزة الإستخبارات العراقية، وبينما كان أحد الشبّان يقدّم أقداح الشاي التي لا يمكن أن يبدأ حديث لدى الكورد بدونه، قام أحد عملاء الإستخبارات ـ حسب ماهو متفق عليه ـ بالضغط على زر جهاز "التسجيل" المربوط تحت ردائه، لتسجيل تفاصيل الحديث الذي كان على وشك أن يبدأ، إلا أن هذا العميل لم يعش طويلاً ليعرفَ أن الذين كلّفوه بهذه المهمة، قد قاموا في الواقع بخداعه، وأنهم قد زرعوا في الواقع قنبلة تحت ملابسه تنفجر حال الضغط على زر "التسجيل"، فقد مزّق إنفجارٌ هائلٌ جسده وجسد الشاب الذي كان يقدّم الشاي، كما مات كذلك رجال الدين الحقيقيون والمزيفون أيضاً نتيجة إنفجار القنابل المربوطة تحت أرديتهم، والتي كانت مركبة بصورة تنفجر إنفجاراً إلكترونياً في وقت واحد. إلا أن البارزاني الذي قذفته قوة الإنفجار إلى إحدى زوايا الغرفة، قد ظلّ سالماً، لم يمسّه أي سوء، سوى خدوش بسيطة لآ تُذكر. وحال سماع سوّاق سيارات التويوتا المنتظرين قرب البناية التي تطاير زجاج نوافذها بفعل الإنفجارـ الدويَّ الهائل، قاموا بضرب ما يحيط بهم بالقنابل اليدوية، لشق طريق الهرب، إلا أن حرّاس البارزاني قاموا فوراً باطلاق نيران بنادقهم الكلاشينكوف على السيارات التي حاولتِ الهربَ، وبقي أحدُ هؤلاء السوّاق على قيد الحياة لبضعة ساعات كانت كافية للحصول خلالها منه على معلومات كافية لتحديد خلفيات العملية، والجهة التي قامت بتخطيطها.
(د. كونتر دشنر)

كان هذا المقرّ قد شُيّد في الستينات، وأشرف على بنائه الملا بنفسه، يطل على "حاج عمران" وكان مكاناً للزيارات والمراجعات للقائد الإسطوري، يشرب فيه الشاي، ويتشاور مع مستشاريه والأهالي، يقرأ فيه رسائل الحب من شعبه، أو يستمع إلى شكوى مظلوم، فيتابعها بحسم وعدالة، ويمحو الظلم في حينه. مقرٌ متواضعٌ لرجل كانت أنظار العالم متجهة نحوه، مسبوقاً بأنظار شعبه الكوردستاني، ومع ذلك ظل متواضعاً بسيطاً وخجولاً، يلف تبغه البلدي بيده، ويقدم سجائر لضيوفه بيده، وربما أشعلها بيده، هو الجنرال الملا مصطفى، ينتظر قدوم ضيوفه المقدّسين، سيتحدثون بإيمان، لكن أولاً سيشربون الشاي الكوردي المحضّر في الغرفة الجانبية، ثم سيذهبون سوية إلى الجامع .. سيصلي بهم إمام الجامع مكبّراً لله والدين والأخوة
كان الجنرال هكذا يتمتم بينه وبين نفسه، قبيل اللحظات التي دخل فيها رجال الديناميت المخدوعين، سينحني قليلاً بقامته الصلبة القصيرة، وهو يصافح بقوة جبليّ ضيوفه. في وقوفي على أطلاله: بناء متهدم تماماً، السقف الإسمنتي مطبقٌ على الجدران المتهدمة، بل المفجّرة. أقف قبالته بخشوع، وأسمع صوته: تقدّم. إنه صوت سيدي الجنرال ملا مصطفى، يناديني، فأتقدم أكثر.. أنحني على الإسمنت وأمسده بكفيّ: خشنٌ حارٌ وقلقٌ، أبصر في تلك اللحظة فتاة صغيرة في الجانب الآخر من البناء وهي تُبعد عنها ماعزاً أسودَ يتشممها، كانت ضجرة ومتبرمة من شمس الظهيرة، أتلمس الإسمنت والهواء، صهيل الحصان البعيد وتمايل زهرة تفتحتْ بين حرارة تلك الظهيرة الحارة، فمالت بعنقها وهي تلاحق خطوات الجنرال العجولة من كوردستان الى أبواب كرملين.. يدق عليها دون جدوى. "بعد أيام من موت ستالين، سافر المنفيّ ملا مصطفى ـ الذي عمل خلال فترة منفاه في مزرعة للفواكه ـ إلى موسكو، فذهب إلى مكتب إستعلامات الكرملين، وطَرَقَ بشدة على الباب، وعندما سأله أحد الحرّاس عمَّ يريد؟ أجاب البارزاني: ـ لستُ أنا من يطرق، إنها الثورة الكوردية تطرق على باب الكرملين!" هارفي موريس وجون بلوج زهرة الظهيرة، تلاحق يده القوية وهي تصافح "رجال الدين" بحرارة داعية لهم بالجلوس، فيجلسون، ثم يجلس هو، يخرج كيس تبغه، ويلف السجائر لهم.. يسألهم عن مشاق السفر على طريق هاملتون الذي كان منهمراً على صخوره وحديد جسوره، في تلك اللحظة يدخل عنصر من البشمركه من الباب الجانبي على جهة اليسار.. في آخر غرفة جلوسهم، يحمل صينية من الألمنيوم المنقوش عليه صورة طاووسين متقابلين، وفي أعلاها مكتوب "الله أكبر"، ليست كتابة، بل طرقٌ بازميل.. فتبدو نافرة.. أو مدقوقة على هيئة طرقات متوالية منتظمة. على الصينية خمس عشرة كأساً مذهبة في خصورها، وممتلئة شاياً عَطِراً. يتقدم الشاب الرقيق مثل ريحان، ويقدّم الشاي لضيوف الجنرال أولاً.. لكنها الرائحة المجنونة والتي بات الجنرال يشتمّها منذ بضعة ثوانٍ، في الإنحناءة الأخيرة لعنصر البيشمركه، صاحب القامة النحيلة مثل ريحان، تنفجر في عطفة الصالون الكبير، وفي الرواق الطويل الجانبي.. وعلى الأحاديث التي تخرج من سؤال الجنرال: ألم يتعبوا على طريق هاملتون؟ وأجوبتهم المقتضبة المبهمة في: لا، ياسيدي... إنفجرت كلمة لا، والترحيب والسؤال، إنفجر الزمن وغبار الشهر السادس الواضح من خلال حزمه على ضوء شمس كوردستان، وحركة يد الملا اليمنى في حثّ ضيوفه "المقدّسين" على الجلوس.. مباركين. أحوم حول المبنى عدة مرّات، أعاين التاريخ، والإسطورة والغدر.. فأشم رائحة القدسية في الجانب القريب، على مبعدة بضعة خطوات عجولة، إنه المسجد الذي كان يؤومه الجنرال بمفرده، وأحياناً مع ضيوفه، لكن ليس مع رجال الديناميت كما كان يفكرّ قبل إستقبالهم.

مسجدٌ بسيطٌ، هو الآخر كان قد تعرّض للقصف بطائرات البعث الرحيمة، من صنع دولة أممية، كانت تصرخ هي وأبواقها الأممية ليلاً نهاراً بالدفاع عن حركات التحرر في العالم، وتزلق بأسلحتها الطيّارة إلى أشد الدكتاتوريات عنفاً، مثاقيلُ، أسلحةٌ، لماذا لون السلاح غامضٌ؟ مسجدٌ أليف.. شُيدَ على أطراف "حاج عمران" في منتصف سفح جبلٍ إسطورةٍ، الأخضر العالي يخفق بالقدسية، وبضعة مصلّين، في بهو المسجدالخارجي يتأملون المقرَّ، أعطافهم مباركة، ولحاهم نابتة ربما منذ أسبوع، تلفّهم شمس ظهيرة ذلك اليوم، عيونهم الزرقاء تبرق بحزن خفيٍ، وأنا أتقدم إليهم، لأصافحهم بحرارة إبن لشيخٍ بعيدٍ، أردتُ معرفة حزنهم، فلم أعرف، أدخل المسجد الذي كان قد دخله مئات المرات جنرالي العجوز، مع ضيوفه المباركين في مشارق الأرض ومغاربها، فقط لم يدخل المسجد مع رجال الديناميت، أعيد الزمن في لحظات، ماذا لو كنتُ الآن في عام 1970، ضيفاً عنده، لصليّنا سوية، سوف أجلس بجانبه على السجاد المضفور بيد الكورديات الصبورات، وهو يرتجف قليلاً، وأنا أرتجف قليلاً، القليل الذي مسّني في المسجد، في لحظات وجود جنرالي بجانبي، نخرج ـ الجنرال الملا مصطفى البارزاني، وأنا ـ وراءنا الشاب النحيل الذي قدم الشاي لرجال الديناميت ـ أراه كيف ينظر إلى ساعته القلقة ـ الساعة التي سأراها لاحقاً ـ والتي وتحت إلحاح المسافر، أحضرها الأخ الرئيس مسعود البارزاني، سأرتعش آنذاك وأنا أحملها، بين يدي، ساعة بميقات زاهدٍ في الجبل. نخرج من بهو المسجد إلى فسحة الجبل، الفتاة الصغيرة مازالتْ متمددة تحت ظلال الظهيرة الملولة، تحت جدارية مقر الباززاني
ـ بعد دخول جيش صدام حاج عمران، وضعوا الديناميت في أرجاء المبنى، ثم فجّروه مرة ثانية، فأطبق السقف بكلكله على الجدران وعلى رائحة الشاي العطر المنبعث من أقداح نحيفة، ثم غادروا مسرعين، لئلا يبقى البناء ذكرىً من رجال الديناميت. يقول القائد محمد عبابكر ده ربندي
حاج عمران هي قرية كبيرة الآن تضم بين جنباتها حوالي ثمانين منزلاً، بعد أن كانت تضم حوالي ثلاثمائة منزل، لكن الأسطورة تخفق في سمائها واضحةً: تاريخٌ من أكثر الثورات الكوردية دواماً، قادها رجل جبليٌ عتيدٌ طيلة عذاب وعناد لايُضاهى، بأسلحة هي القلوب كفوءةً بجبالها، حيث في الجهة المقابلة من حاج عمران، يلوح للمسافر في أعلى القمة، بياضٌ بياضٌ ليس وقته في قيظ الظهيرة، إنها ثلوج حاج عمران طيلة الفصول، تبقى في الأعالي خافقةً ببرودتها؛ في السويد في أقصى شمالها كذلك ثلجٌ وأيائلُ، مثلما هي الآن في كوردستان، الأيائل التي سيراها المسافر في جروف بارزان مقدسة، ومن يملك الشجاعة في إصطيادها، فهي محمية بقرارٍ روحي إسطوري، الأيائل التي كان المسافر يعتقد أنه إبنٌ لها، رضع منها المجازفة وربما بعض الوقاحة، والكثير من الحب، أرى دخاناً بعيداً يتدفق من الحكايات، دخان قدسي ، تحول إلى نبعٍ مباركٍ أشرب من مائه تالياً، دخان الرعاة ـ أخوالي ـ فلأسردنّ حكاية شيخ "بالكان" في حاج عمران: كان الشيخ في تقواه الجليل، منزله في مكان ما من حاج عمران، سأهتدي إلى قبة مزاره، الذي يتدفق بالقرب منها الماء الأخضر، يملك الكثير من الماشية، وفي عهدتها إلى راعي حاج عمران التّقي، أكثر من شيخه، كما تقول الرواية الأكثر دقّةً، كان يختفي هو والمواشي وعصاه التي يهش بها، وفروته، وعيناه الزرقاوان، والثغاءُ الحاد لسخلات الجبل، والجحش، والحنين، يختفي عشب المرعى، الجدول، المباركات، الحليب. ليعود هذا الحليب مباركاً، له طعم "مكة والمدينة" له رائحة النبي وصحابته، رائحة الصحراء، يستغرب أهل حاج عمران، وهم يتفقدون الراعي فلا يجدونه، وقطيعه، هو يطير مع أغنامه في الليل إلى مكة ومدينة، ليتغبّدَ، أين تذهب خرافه،؟ أين يذهب الثغاءُ؟ إلى الجنةِ، يقول صديقي القائد الأزرقُ، هكذا تواردتِ الحكايةُ من شفة ترتجف إلى شفة تنهل من ماء جليل، شفاه البيشمركه هذه المرة، مسبوقة بعزيزهم، نفسه العنصر الرقيق النحيل، الذي أهداني زهور المطر، يقدم لي برقة ماء "زمزم" كما قال، وكما شربته بصفته المباركة تلك. وليستعدِ الزمنُ قديمَه، في السبعينات، أهو نفسه الذي قدم الشاي، بنحوله ورقّته، فتمزّق بالبارود؟ مااسمه؟ أين قبره؟ ياالدليل من سيدلّني؟ هو القائد بعينيه الحنونتين هذه المرة: ـ أترى دخّان الجبل؟ ـ هناك في البعيد الشامخ، كان منزل الملاّ ـ فلنذهب إليه. تنتظر سيارة لاندروفر خارجاً، وفيها أحد البشمركه، وقد جلس إلى مقودها وكلاشينكوفه بجانبه، وفي متناول يده، وعندما ينطلق في الظلام، يضيء المصابيح الخلفية فقط.. نتبع طريق هاميلتون مسافةً، وألحق أن ألاحظ بأننا قد عبرنا حاج عمران، قبل أن نخرجَ من الطريق الرئيسية إلى طريق جبلي، وبعد ذلك لا أعرف شيئاً عن وجهة سيارتنا، ولكن توجد آلةٌ لقياس الإرتفاعات ملصقة بالزجاج الأمامي للسيارة، وأرى كيف أن مؤشرها يزحف ببطء نحو1900 متر، قبل أن نتوقفَ عند بيتٍ، ألمح هيئته في العتمة. طبعاً لا أرى أي شيء من المنطقة، ولكن لدي إحساس بأننا موجودون على سفح جبل محاط بالقمم العالية. ويسقط نورٌ أبيضُ باهرٌ خارجاً من خلال باب مفتوح في أحد الأروقة.. يتبادل سيامند بضع كلمات مع أحد البشمركه، ومن ثم ندخل البيت. ينتظرنا مصطفى البارزاني وحيداً في الغرفة التي ينبعث ضوؤها من فانوسيّ بريموس يصفّران في إحدى زوايا الغرفة."
(تود فالستروم)

يلوح من على القمة المقابلة دخّان يتصاعد إلى الأعلى فيمتزج مع ثلوج حاج عمران الصيفية. هو دخان الرعاة يطبخون في قدور نحاسية أخضر الجبل، دخأنهم المبارك، وأكفهم الخشنة، وأنا أصافح أحد هؤلاء/أخوالي. يبتسم لي إبتسامة العارف، وأنا أسأله عن الكبش. كلابٌ ملولة، لكنها تظل تعوي بضراوةٍ طيلة صعودنا بسيارتي "لاند كروز" هذه المرة، ليس ثمت من آلة لقياس الإرتفاعات، لكن أشعر بخطورة الطريق المحفوف، الطريق البدائي، بقايا حجر مكسور.. ورمل وتراب، السيارة تصعد، وأنا منكمش في المقاعد الخلفية منها، تضرب رئتي هواء الجبل النقي، وأراقب كاميرا الأخ "يوسف" وهي تئز على جهات "حاج عمران" أقول له لا تفلت تصوير أخوالي الرعاة. والآن وأنا أشاهدَ الفلم، أرى كم أفلح في تصويرٍ نادرٍ وشاعري للجبل، الجبل الكوردي البليغ في صداقته لأهله. ليس للأكراد أصدقاء سوى جبالهم، لاأعرف لمن المقولة، لكنها فاحشة في خطئها، الكورد هم أصدقاء جبالهم، في حنوهم عليها، يزعلون في شق طريق لجسده، في تفجير صخره. لكن وعلى مضض يوافقون، لابد من الطريق.. هو يفيدنا، لكن يتوجع الجبل. الجبل يشعر ياالمسافر، الجبل هو حيوان خرافي > مقيد بألمنا، ويتألم، ويبكي، دموعه ما تراه من جداول، وأنهار وشلالات وسواقٍ، إنظر إلى أخوالك كيف يضرمون النار على جسده، ألا يتألم؟ تصله شواظ نيرانهم، شواظ الآلاف من القنابل على منزل جنرالك الآن، وأنت وصديقك الأنيق "إبراهيم" والقائد الحنون بعينيه الزرقاوين، تنزلون من سيارة "لاندكروز" يحفّ بكم عشرات من البيشمركه بخفتهم الطيّارة، ورشاشاتهم اللامعة على أكتافهم الشابة الرشيقة، في يدك دفترك بغلافه الأسود اللامع، في الساعة الثالثة من ظهيرة حاج عمران، الرجفة على الجبل، ها أنت في منزل جنرالك الشخصي، كيف إذن تصعد الجبل، في الوصول: بضعة مئات من أمتار صاعدة، في التسلّق، وستكون هناك، في باقة تلك الزهور التي إمتدتْ إلى كتفك اليمنى أولاً، ثم إستقرّتْ في يدك اليسرى: فتلتفتُ إلى تلك الحركة اللدنة، الرشيقة، الشاعرية، هو نفسه عنصر البشمركه النحيل، الذي قدم الشاي للملالي، فمحته النار والحديد. ـ إنها زهور المطر، ولاتُهدى إلا لعزيز. يقول القائد الأشقر. فأرتبك في بلاغة اللغة الكوردية: ـ سباس... سباس، زور سباس )شكراً، شكراً، الشكر الكثير( سأحبها كثيراً.

في السفح المنبسط المحيط بالمنزل، سأضع دفتري على عشبٍ طريٍّ، تتهادى عليه "زهور المطر"، وفي الإلتفاتة للجهات، سأسمع أزيز الطائرات العسكرية، وهي تحوم حول هذا المنزل، وتقصف، وتغيب، تعود مجدداً، تقصف، تغيب، تعود إلى عدد لانهائي، وأنا أسأل القائد، هل قُصف هذا المنزل، يستغرب من سؤالي، آلاف المرات، لكن الأسلحة القليلة المضادة للطائرة كانت تمنعها في إصابة الهدف الوحيد الأوحد لقوات صدام الطائرة، تعود الطائرات الأممية، وترمي بنارها الحنونة على منزل لاشيء فيه، غير أسطورة هو الجنرال ملا مصطفى، غرفٌ عديدة، منزل أكثر من عادي، بضعة غرف، الصالون الكبير على المدخل، غرفة كبيرة، أتصور بأن السويدي الزائر جلس فيها، وهناك أعطاه بصلات الزهور، التي تأملها بعمق لدقائق، أسمع صوت السويدي، وأفهم مايقوله، أسمع صوت جنرالي، وأفهم شكره الكوردي المقتضب، الحار والصادق:

ـ سباس، أزبني، سأزرعها في أسفل المنزل. ممنون. لو كنتُ هناك، هل كنتُ المترجم؟ نعم ياالمسافر. يلفُّ له سيجارة من كيس تبغه المحلي، كانا جالسين في كرسيين قربين بينهما طاولة صغيرة عليها بضعة تقارير عن وضع الجبهة العسكرية، قصيدة قدري جان مهداة له، أوراق مكتوبة بخط اليد فيها بضعة قصائد لمولانا خالد الكوردي النقشبندي، بلغته الكوردية الصعبة، خليطة الفارسية القديمة والكوردية الأقدم، وساعته تركها فوق الأوراق. تهبُّ نسمة الجبل متدفقة على دخان سيجارة جنرالي فقط، فقد إعتذر السويدي، فهو لا يدخن : لكن من جنابكم سأخذ السيجارة، هدية منكم. أدخل المنزل المهجور، الحيطان مسودة، وثمت ثقوب كبيرة في السقف، هي في قصف الطائرات الرحيمة، بعد ترك الجنرال المنزل، غرف عديدة، هي الجبل طيلة ستين عاماً، غرف في الوحشة الباهظة على الغياب، لِمَ لَمْ يتحول إلى متحفٍ! سؤال سأتوجه به الآن وأنا في الغياب البعيد لأخي الكبير مسعود البارزاني.

أحس برائحة الدخان على الجدران المسودة، برائحة زهور المطر، بالتبغ الطري، بعبق جنرالي الذي يلهث قليلاً من التبغ والعمر، والتقارير القلقة القادمة من الجبهة. ثمت غرفة معزولة اكاد الجزم هي غرفة العزلة له، ففيها تهدأ أزيز الطائرات، فيراجع التاريخ الكوردي الدموي الكثير: ـ يامولانا خالد.. يشهق سيدي الجنرال في هذا المنزل، وهو يودع السويدي، وهو يودعني عند البهو المطل على الجبل والعشب وصهيل حصانه البرتقالي في تلك اللحظة التي يطل منها على مساء حاج عمران، فيراه الحصان، يشمه بخطمه، ويعرف أنه سيده الجنرال، فيصهل.. صهيلاً مثل جرس أخضر. ـ بقي حصانه في حاج عمران بعد ترك الملا لها، حزيناً، ساهياً، ثم مات. يقول محمود القائد.

تجولتُ في المنزل الشخصي، ما تمكنتُ، لكن كثافة البشمركه، أحرجني، إرتبكتُ في الكثير الخجول، والكثير المتواضع، أخوتي البيشمركه، يتطوعون في تفسير أي شيء، علومهم علوم الفلك الكردي الدقيق المتقن، علوم الجبل الذي لاأتقن معرفته كما يليق بكردي، ندخل المطبخ العائلي، ثمت الرائحة المتواضعة للجنرال في قلة أكله، ولا إهتمامه بالمطلق بما يُقدم له، هلى كان يأكل في غرفة المطبخ، أم تحت ظل صخرة كبيرة، أم أمام جدول ما؟ مسيل مبارك من ماء متشقق يسيل في منحدر أسفل البيت من الجهة الخلفية، حيث الإنحدار الذي يشعشع مرمياً بأعشابه ونباتاته وزهور المطر نحو الأسفل البعيد، نحو الأعلى الجدير بالأبيض المبارك البارد، ثلوج حاج عمران أوائل الصيف، ماذا لو كانت كوردستان في غير دمها الكثير، الذي سال كجدول، طلباً لعَلَمٍ، لشهقة حب، لشتيمة بين محبين بالكردية؟ دون السلاح اللامع لقتلة الحلم الكردي منذ متى! لاأعرف، لكن منذ زمن عتيق، دونه أسلافنا الكبار الشعراء، أين الفلسفة الكردية؟ لاأعرف، لكن أعرف هذا الإنحدار الرقيق نحو متاهة النفق القديم الذي حفره البيشمركه في السبعينات إتقاء من غارات الطائرات لجنرالهم/ لجنرالي، أسفل المنزل، والذي طواه النسيان والوحشة والزمن. يهدر في أسفل الفضة السحرية لجبل حاج عمران. يتقدم البيشمركه عزيزهم، مصباح يدوي واحد لإضاءة النفق، في الأمتار الأولى ضوء كوردستان ينير ظلمة الحجر الجبلي العتيد، محفوراً ببدائية، لكن بروح إزميل سماوي، يتهاطل إلى أكثر من ثلاثمائة متر، ثلاثمائمة وخمسين متراً ربما يقول القائد، بعينيه وهماتبرقان في ظلام النفق الآن، في الخفافيش النائمة في السقف، أقول لأخي البشمركه: لأراها كيف هي نائمة مقلوبة، مخالبها الرقيقة، تغفو على السقف، فتتهادى على الأرضية الحجرية، حجر في الجوار، ونحن ـ البشمركه وأخي إبراهيم الأنيق، وأناـ وفي هدأة الظلام/ الكلام: علينا جميعاً أن نمسك بأيدي بعضنا البعض، النفق الآن ينزلق إلى الأسفل، إلى جهة الحصان، الذي صهل البارحة، وهو يرى بعينيه الكهربائيتين جنراله يخرج إلى السفح، مودعاً السويدي: ـ فليرافقك سيامند، طيلة وجودك. أزبني. أتمنى أن تكتب عن الكتف الكردية الجريحة في هذا المكان المنسي من الخطوط في سجلات الدول الرسمية
Ja..Ja, Herr Barzani ـ
يقول السويدي.
ـ نعم. نعم سيدي بارزاني. يترجم سيامند، الذي هو المسافر الكوردي البعيد، هذه المرة. يبلغ طول النفق حوالي الثلاثمائة إلى ثلاثمائة وخمسين متراً، وله ثلاثة منافذ، كل واحد يطل على جهة من جهات كوردستان الجبلية، دخلنا النفق من المنفذ الخلفي للمنزل، وخرجنا من المنفذ الأمامي للمنزل، وإنبثق ضوء بنفسجي من جهة اليسار، ونحن نجتاز المنفذ الثالث، والضوء الراعل من مصباح البيشمركه يتساقط وديعاً على الحجر الذي ضمّ جنرالي مرات عديدة، وهو ينأى عن المعدن الرصاصي اللامع الأممي والغربي، الشرقي والغربي على السواء
ـ لماذا؟
أخرج من المنفذ لاهثاً، وخائفاً قليلاً، أجلس على الأرض أمام المدخل المخرج، وآخذ صوراً، أراها الآن كم أبدو شاحباً أمام جبل لايعتد إلا بأهله، وأنا إبن للجبل، هاجر جدي القديم " بافي كال " من أطراف دياربكر، واستقر في جبل ما هناك، إلى حين وفاته، ودفنه في مقبرة، ستتحول تالياً إلى مزار مقدس كبير، للكثير من الكورد، لكن بالنسبة لنا ـ نحن أحفاده ـ في تشتتنا الكثير، لن نزوره، لن نرى قبره الأخضر، وهو يغفو حيناً، ويستيقظ من غفوته الكبيرة، يفتح عينيه، فلربما رمت الأقدار الكوردية بأحد أبنائه إلى حضرته، طالباً منه أن يرى أبناءه، في مشارق الأرض ومغاربها، وقد نسوه، فيعاتبهم بلهجتهم العالية الباذخة العصبية
ـ إقرأوا
وأنا أحد أحفاده، سأمر بالجوار من مرقده، لكن أية علوم ستدلني أنه هناك،
ينتظرني

فصل من كتاب معد للطبع

Home